أطلقت العنان إلى كل شيء، كان تفكيري يراود حلم الأمس ، ويعطي زخما إضافيا لحالة الفوضى الكامنة في مناطق الجرح ،أمام عتبات السؤال الملح ؛ يزداد النزيف في الممرات الفاصلة بين شكل الحياة ، ومصير الموت المشابه للقبور الراكضة في بقاع الإعتراف . أجد كل أشكال البقاء تلمع في عيون من غادروا سقف الضوء ، واقتصروا المسافات بين لحظة الصراخ ، وعتمة المسالك الغارقة في ردمة الطمي ، و الأسرار الخفية في كف من حمل قتلاه خارج حدود التماس . و أشواك العودة ؛ أصطف إلى جانب الجدار أنتظر دوري في الحياة داخل الضفة الأخرى .
لا أعرف عنوان بيتي ، و لا شكل الوجوه التي غابت عن الذاكرة ، و لا رائحة الأرض تشبه رائحتي ؛ أشعر أن المكان يحتقر أصحابه ، ويلوم التاريخ عن الفرص الضائعة في ملعب الخصم ، وأنتهز الفرصة السانحة لأطل على مفتاح بيتي العالق في غصن الزيتون،أعتصر في دوامة الإنتظار ، و المخاصمات الرخيصة على مسرح الضفتين ؛ أعود إلى منتصف الطريق ،أحاصر حصاري القريب من دمي ، وأعد الأيام و السنين ، و الأسماء التي ذهبت مع الريح ، وأخرى تصارع جرعة البقاء في أرض لم تعد عربية ، ولا شكلها يغري بالإقتحام .
أخذلتنا سلوكات القهر ، و الإرتهان و الخمول في شرب الكحول على أصنافها الباهظة ، وذللتنا تيارات الإستهلاك اليومي لخبر القضية ؛في كل مكان أعرف أني مظلوم ، وفي كل بقعة أعرف أني غير موجود ، وفي أحيان أخرى أعتبر نفسي دخيل على وطن لا أنتمي إليه ، لا أحمل عنه سوى بطاقة تعريف وهوية مشوهة على سرير المرض .
أذكر أن الجرح لن يلثئم مع مر الأيام و الأعوام ؛ يظل غائرا في القلب والوجدان ، تدق طبول الحرب في كل مكان ، و المنهزم معروف و المنتصر واحد ، والأهداف تتشابه في ما بينها ، وقدرنا المحتوم يجر ذيول الخيبة و الأسى ؛ تتكرر نفس الأخطاء عبر أجيال متلاحقة ، ونلوم بعضنا البعض ، وهناك في الأصل من يتحكم في غرائزنا الطفولية للعودة إلى ركن آمن يقينا حر الشمس ، وتدافع إنزلاقات جارفة يحكمها سلوك من لا يرحم .
نعيش ونموت بدون هدف ، و آخرون يقتلون من أجل هذا الهدف ، من أجل رسالة ... لا نبحث عن ذواتنا ، ونتعلم من دروس التاريخ القريب منه و البعيد ، ونعيد صناعة أبواب لنا ، لا أقفال لها تشجع الفضولي و العابث الجبان للإقتراب منها ، و العاجز على الدفاع عن نفسه أمام خصم كان بالأمس يشحت رغيف خبز في العواصم الأعجمية ؛ و لا تستغرب كثيرا ، وتحسس وضعك الحالي ، تعرف من أنت
إرهاصات أولى،تمنح الوقت فرصة معالجة آثار القهر،وتجميل ترسبات الحجر فوق بيت مهجور،تسكنه أطياف حلم تسربل في الوحل.هل كنت هنا يوما أطل من خربة البيت،أشم رائحة الموت على طول شجر الصبار،والصيف يعلو الجباه في سوق بادية يعيش خارج أسوار مدينة عصرية في شكلها،كنت ذاك الشاب البدوي،يتطلع خارج جغرافيا الجهل،ويتقمص شخصية الرجل المدني الذي لا يشبهه شيء في تفاصيل حياة لم تكن أن تعاش إلا في ظل فوضى الأمكنة.
لم يكن خروجي من الطين سهلا،قدر لي أن أعيش حياة نظيفة تتماشى ومتطلبات العصر؛لكن حياتي ضاعت في زحمة القذارة المستباحة في كل مكان،عدت إلى طفولتي،وأنا أعانق الطبيعة في شكلها الأزلي،كان يقيني جليا في كل هذه الرؤى التي تتماثل أمامي كصبح يوم خثاني،علمت معنى الطير و "الحجام"يسرق منك شيئا من رجولتك؛دون سابق إعلان أو تمهيد مبدئي لخوض حربك الأولى على درب الحياة.