أغلق الباب مغاضبا،تراه، شاردا حد النسيان؛كمن خرج من نزال غير متكافئ ،منهك القوى،يمشي متثاقلا على عتبة السبعين ،لا تظهر عليه آثار الشيخوخة.يتمتع بحوية لافثة ،وأنت تحدثه .شغوف بالحياة ؛طموحه الرجالي ،وصلابته الهشة ،تضعك في حيرة ،تحاول تقريب ملامح هذا الرجل الذي خرج للتو من البيت قاصدا وجهة لا يعرفها ،مشتت الذهن ،مشدود إلى شيء ما ،أخذه هذا المأخذ الحالم في متاهات التذكر و النسيان؛وهو يخرج من عالمه الداخلي إلى فضاء الخارج الفسيح ،تربكه خطواته شبهة إغلاق الباب بإحكام ،تراه يغادر إلى وجهة لا يعرفها؛منذ ترك أشياءه خلفه دون النظر إلى التفاصيل المملة ،و الباعثة للضجر .
أحدث صوته جلبة الفضول البديهي ،عن فحوى القلقل الشاخص للعيان ،تشعر أنه ارتكب جرما في حق نفسه ؛أو في حق غيره،خطواته المتسارعة على الرصيف المقابل للشارع الرئيسي؛ حيث يؤدي إلى وسط المدينة . فجأة، يتذكرإيقاع النشيد الوطني ،يتذكر الصبى والطفلة المكتنزة لرطوبة الأماكن الآسنة ؛تذكر كل شيء ،وهوعلى مرمى تقاطع شارعين ،قريب من حدود النزاع القائم بين الجيران .كادت إحدى السيارات أن تدوسه من فرط الهذيان ،غير آبه لصراخ السائق ،وتدمره الصاخب ،وهو يلوح بيده ؛مهددا ومتوعدا،والرجل الشارد ،يضع بين أصابعه النحيلة سيجارته الذابلة كظله، تفرز خاصية التوتر المكشوف للأعداء والأصدقاء .أوقف منبه السيارة شريط أحلامه التائهة في ذاكرة أثقلها هم النسيان المفاجىء ؛ و تخاذل الزمن في إنصافه ،ومذ أن شعر بالوحدة القاتلة، في حيز لم يختره عن إرادة ،ورغبة جامحة في اختيار حياته التي لا يملك منها سوى حبره ،وبعض الأوراق المبعثرة هنا وهناك .
شيء ما كان يسكنه ،ويهمس له في صمت :
"لا تحمل قلما أحمر في جيبك الأيسر ،ولا تضع نظارات سود ؛قد تغير ملامح وجهك ،وتدفعك إلى إمتلاك شعور جديد ،تتلمس من خلاله خطواتك ؛وعن فحوى الإختيار والإذعان ؛لما قد يفرض عليك طوعا أو قهرا ،تجاري شخصية الممثل الخارج من مسرح الأحداث ،وأصوات لا تمثل إلا نفسها في زحمة النجاة والفرار ،إلى ذات أنهكها تعب الإنتظار..."
يواصل حضوره الغائب في ضوضاء الأشياء،وهو على إيقاع الشرود الواعي في حضرة التيه:
"أعلنت الحرب بداية اللوائح الطويلة لقائمة القتلى في زحمة الحياة السريعة،كل شيء يفضي إلى نهايته..."
هكذا ، قرأها في مكان ما.نسي أن يتذكر وجهته ،نسي لماذا خرج في هذا الوقت بالذات،ولم يكن وقتا آخر .درجة الندم تسارعت عنده ؛وهو في هذا التيهان المفضوح ،لاشيء يوحي له بالأمان لحظة خروجه .وهذا الموقف الملتبس الذي وجد نفسه فيه،يواجه مصير النسيان المركب من عنصر المواجهة ،لا يريد أن يكون صورة هامشية لأحداث الصراع ،في قلب المعركة. يجد نفسه بطلا أسطوريا،يحمي جبهات القتال ، ويدفع الأذى عن نفسه في كبرياء متعال، وشموخ يسقط السيف في عتمة الجماجم القديمة تحملها خفافيش تاريخ مغارة معزولة عن حدود جزر موغلة في العذرية، والكائنات الأولى قبل بدء الخليقة .صور كثيرة تراءت في لحظة خاطفة ؛كأنها الدهر.
تراه،يتفحص وجوه المارة ،عسى أن يجد شخصا يشبهه ،كي يتذكر من هو ،أو شيئا قريب منه ،يبحث عن الضوء في حلكة النسيان ،والعذاب القاسي الذي يعيش فيه ،بين ذات غارقة في وهم الأشياء المحيطة بها ،ونفس هائمة في مجراتها البعيدة،لا يرى أحدا في ظل الإنكماش الخرافي الذي أوقع نفسه فيه ،دون قصد ؛ أم أن الأمر يدعو إلى الشك في تصرفاته المشوبة بهوس الإكتشاف ،إكتشاف حالة رجل يعيش وحده يتلذذ بوحدته القاتلة أحيانا، وأخرى تعتبر مصدر قوته وعبقريته، التي تحددها نظراته الثاقبة في حالات الصحو ؛وهو مأخوذ بحالته الشاذة القريبة من جنون مباغث ،يسكن جسده بين الفينة والأخرى .
يعيش عالمه بقوة الإحساس الممزوج بالوحدة الهالكة ،والظلال المتعاقبة خلف أسوار قلاعه البعيدة ،ترمي نفسها للبحر ,،وتطلب إغاثة مؤجلة لملايين السنين ، ضاعت الرسالة وانكسرت الزجاجة ،ولم تعد الرسالة إلى معنى الخطاب ،ولا فحوى الإنكسار .تردد كثيرا في قول الحقيقة ،وهو ينظر الى وجهه في زجاج النافذة المقابل لسكناه ،لم يعد يعرف وصف الكلام المعبر على صورة الشكل ،ولا مجاز خفيف على ظل امراة ترتدي انوثتها الفاضحة.تذكر كل هذا في لحظة واحدة ،دون أن يتحقق من مكان وجوده،ويستشعر حقيقة نفسه،بعيدا عن شكوكه المفرطة ،أن يكون هو الشخص الذي ينظر إلى الشارع من خلال زجاج النافذة،أم هو ذاك الرجل التائه في زحمة الحياة ،وقاده تفكيره المتواصل إلى دروب وأزقة تغلب عليها عتمة المجهول...
ربما لم يخرج من بيته ،أوهكذا هيئ له، شعر بالندم ،كيف خرج ؟،وما السبب ؟،لماذا هو هنا في هذا المكان الذي لا يعرفه .تتشابه الوجوه والمنازل المتلاصقة ،تحن إلى بعضها أكثر ما يحن الإنسان الى أخيه الانسان ،حاول أن يستوعب الموقف، والحرج النفسي الذي وضعه القدر ،لكنه حاول جاهدا مرة اخرى ؛وهو يتحسس وجه الذاكرة ،وإمساك الأمور؛ حتى لا تخرج عن السيطرة .إلتفت الى الجهة المقابلة لبيته ،رفع رأسه ليرى شكل النوافذ ،والحمام يقف على حافة الشرفة يحدث إرتباكا عميقا في نفسه،لم يصدق أن الحمام يطير، ويعود الى النافذة .
حاول ان يتذكر كل شيء ،تفاصيل بيته من الداخل، ولكن حركات الحمام المتكررة ،أفسدت عليه فسحة الإدراك ،وجمع شتات أفكاره ،ووضع الصورة في مكانها المألوف.تضيع منه الأشياء الجميلة بسرعة كبيرة .اختفى الحمام على مرمى النافذة ،بذل جهدا ليعرف أين هو ،تذكر ، فشل في استحضار ملابسات هذا المأزق ،استعصى الأمر و استحال معرفة وجوده هنا ،و ضاع في متاهات الأسئلة المحرجة، و المطبات الضاحكة ،ويشتد إيقاع الصورة الهاربة ،تنزلق الكلمات المعبرة ،يتيه في صخب الناس ،وضجيج الحياة الجديدة .وهل هو من هنا أم من بلاد أخرى؟. أسئلة تتزاحم في خضم هذا الإنفلات القريب إلى حالات الجنون .فجأة ...يتذكر...إنه يعرف كل شيء، ...أحس بشيء يأخذه إليه ...يتذكر كل شيء .فكر في هذا الوضع أكثر من مرة ،ولم يستسلم ...وعاود المشي عساه أن يعرف أحدا ،و شبئا يدله على هذا المكان الذي وجد نفسه فيه ،وبشكل من الأشكال داخله. .
خطى ،خطوات مشدودة؛ كمن يريد العودة إلى الوراء ,وفي لحظة السير المتثاقل لاحظ وجود كشك في الجوار ...الآن، بدأ يتذكر كل شيء ...إنه بائع الجرائد .إنفرجت أسارير وجهه ،وعادت الحياة إليه ،تستقبله بإشاراتها الواضحة .والآن، "سأذهب لإقتناء جريدتي المفضلة"هكذا قال؛وهو يسترجع نبض ذاكرته التي أضحت تخونه ،كلما غيرالمكان،وكلما ضاع في شروده المزمن المؤدي إلى مرحلة خطيرة من المرض ؛مرض فقدان الذاكرة كليا أو جزئيا .
لقد تعود كل صباح قراءة الجريدة ،نظر الى صاحب الكشك فعرفه على الفور ،أحس في داخله بثقة كبيرة ،وشعور جميل عندما تعود الأشياء إلى طبيعتها ،وهو يحمل الجريدة في يده .هكذا تكون الأمور بسيطة إلى حد التفاهة ،وتتعقد خيوط الحياة لمجرد إنفلات إحدى هذه الرموز التي ترتبط بالذات و بالوجود ،وأعاد النظر في المحلات، و الأماكن المألوفة .تعرف على كل شيء ،وفكر في العودة لى البيت خوفا من ضياع جديد،ويتأكد من فكرة الإنفراج الذهني ،وصفاء الروح بعد تشويش قليل . أراد العودة إلى البيت ليصدق حقيقة نفسه ,وأن كل شيء على ما يرام.أراد أن يسترجع الفرحة إلى داخله .إبتهج قليلا ؛ولو فترة قصيرة ...يتيه في عوامل الإحساس الغريب بالوحدة ،في ظل صخب الشوارع الشاردة .
إقترب من البيت، وتطلع الى نوافذ شقته .شعر أن الوقت يمر سريعا .يسرع في تجاه نهاية قريبة لوجود مفعم بالغموض .وقد لاحظ إختفاء الحمام على حافة النافذة ،وغابت الشوارع الصاخبة ،تذكركل شيء. إنه خرج ليشتري الجريدة .فتح باب بيته ودخل ،مازالت النوافذ مغلقة ،والسيجارة مشتعلة فوق المنضدة، وكوب شاي ،وقطعة خبز ،وشريحة جبن مستوردة ،وأوراق مبعثرة على الأرض .تأكد أن كل شيء في مكانه .تحسس أعضاؤه كلها ،وبدت له الحياة كريمة معه ،أعطته فرصة أخرى ،وابتسمت له حياة أخرى على الورق.