لعل المتتبع للشان الادبي ، وخاصة الجانب الشعري منه ، يلمس بوضوح كثافة اللغة ، ودلالاتها التي تبتعد كل يوم عن علاقاتها التقليدية ،و المتعارف عليها سلفا ،خرجت عن المالوف و النمطي ،واخذت على عاتقها تجربة المغامرة الفاضحة لعمق الدلالة ،التي لم تعد ترتبط بالانساق المتداولة ،وبحركاتها التي تستجيب لواقع اللغة اليومي ،والمعاني المستصاغة ،التي تستانسها الاذن . بل تجاوزت سقف طموحاتها التي تنكشف باستمرار، من خلال المتن الشعري ،الذي بدا يطل بكل ارهاصاته وهمومه واحلامه، وانكساراته التي تشتغل عليها اللغة الشعرية الان .وضمن حلقات الدرس ، والمادة الشعرية التي تتبناها القصيدة الجديدة ،التي تتجاوز احلام اللغة في الخروج من عنق الزجاجة ،والتحليق بعيدا ، تبحث عن لغتها الخاصة في الايحاء و الرمز و الغموض، والجمع بين المتناقضات في سلة واحدة ،وضمن الصورة الشعرية ،و المشهد الواحد . هكذا اصبحت اللغة الشعرية متمردة على اشكالها ،منذ بداية القرن الماضي ،وحتى مطلع الا لفية الثالثة . والتراكمات التاريخية التي اعقبت مسيرة النكسات ،والهزائم الفكرية والثقافية و الحرب على كل ما هو محلي و قطري .
من المفارقات العجيبة ،التي احدثها التاريخ البشري في ذهنية العر بي .تتمثل في امكانية اخذ الزعامة الثقافية و الريادة في صناعة المشهد الثقافي ،بحلة ترضي الجمهور العريض من ابناء الوطن العربي ،لكن الواقع السياسي احبط امال الملايين في وضع تصور جديد للعقل العربي ،في المحافل الدولية ، وفي مراكز القرار . ورغم هذا الحصار، والحرب الطويلة على المثقف و الثقافة ،ما يزال بصيص الامل يعلو في الافق ، ومنابر الاشتعال بدات تتوقد في مواقعها الجديدة . تتلمس طرق النجاة . والكشف عن وعيها الحضاري الجديد، بكل هذا الثقل العربي الذي تشهد له الامم الغابرة ،و الدول الحاضرة ،بان العقل العربي قادر على تحقيق النهضة من جديد ،مع بشائر الربيع العربي . و المتغيرات التي قلبت موازين القوى في اكثر من دولة عربية . ويكفي ان وازع الخوف لم يعد مطروحا في الشارع العربي .
نعود من حيث بدانا . حتى لا نخرج عن السياق العام للموضوع . ثمة تحولات عميقة في لغة الشعر. والبناء العام للقصيدة الجديدة .التي تتطلب دراسة مستفيضة في كل مكوناتها الدالة على معنى الشعر . و دور الشعراء في خلق فضاء اوسع تنهض منه لغة الشعر. التي تعتبر مقصدية الشكل النهائي الذي تخرج منه القصيدة . وتتوسع دلالاتها اكثر عند كل قراءة . ورغم كل ما تحمله القصيدة من مكامن البوح .واختزال اسرار الجرح .و هدم قواعد السلف . والرغبة المستمرة في تكسير زجاج السماء .كلما سمحت فرص الابداع . والمخاض العسير الذي تعيشه كل تجربة تقفز من متن القصيدة . وتتوغل في بحر هائج باستمرار .لا يهدا له جفن . ولا تسعفه خيالاته الواسعة في ضم احلام الماضي. و تمازجها مع رؤى المستقبل .
اغرقت الشعرية الحديثة في كنها الانساني . وكشف جوهره . رافضة كل الاشكال . تطمح الى حرية اكثر في امتلاك مفاتيح الذات . و التعبير عما يخالجها من احاسيس .و مشاعر واحباطات .تضع القصيدة الجديدة في مازق التاسيس .الذي ياخذ واجهة الصراع بين الاشكال التقليدية .و ما تتطلبه المرحلة الراهنة . وما ستسفر عنه تجربة الغد من انماط الحكي. و البوح الشعري .الذي يعكس الحاجة الملحة .في البحث المستمر .على صفاء الروح . ومعانقة المستحيل . وذلك لا يتاتى .الا بنزوح اللغة عن جل الانماط السائدة . و الكشف المتواصل على حقيقة الانسان .في قراءة عميقة لكل ما يختلج الذات الشاعرة .و سفرها المضني في كسب ثقة نفسها.في زمن الحرب .و فشل صناعة ثقافة قومية كما كان يحلم بها ابناء الامس.
هذا .الشرخ و التمرد . ووضع قطيعة معرفية مع الماضي . كلها ادوات وعناصر لبناء تصور جديد .ماتزال قصيدة النثر .او القصيدة الشعرية . رغم السجالات الحادة التي اعقبت خروج النص الشعري عن نظام التفعيلة . وتحوله الى ما يشبه ارهاصات لمرحلة فاصلة في طريقة كتابة الشعر .التي تخرج عن النسق المتداول . وانتقالها الى مساحة ارحب .في القول الشعري. الطامح الى هدم اللحظة. واسبدالها بلحظته الخاصة .دون قيود تكبل حريته الشخصية .قرون طويلة .واسبداد الحاكم العربي اكثر من نصف قرن .
ان جدلية الصراع القائم .بين الشاعر ورقابته الذاتية . لم تسلم من بؤرة العجز .وسلوك الاحباط الذي يراوده .كلما حمل القلم لفعل الكتابة . وعليه التخلص من هذا الكابوس السياسي .الذي يلازمه اثناء الكتابة وبعدها . وهذا الشعور يضع القصيدة في مهب الريح .تصارع وجودها من اجل البقاء .وتكرس وجودها المؤسساتي .رغم كل هذا الذي يعتمل في عمق التجربة الشعرية الثائر ة على نفسها. وعلى وضعها اللغوي .الذي لا يشبع رغباتها الحالمة .في تجاوز مرحلة المخاض .و الدخول الى ابواب الاعتراف بها .كنمط شعري فرضته عوامل كثيرة بعيدة عم حدث . و يحدث في اوربا وامريكا. بل المسالة تتعدى حدود المنطق .وتتجاوز مراحل كثيرة في اطلاق صرختها القوية .بانها تنتمي الى التربة العربية .مهما قيل عنها . فهي حاضرة في الذاكرة القريبة منا.و مؤثثة لمرحلتها .في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة العربية .
القصيدة الحديثة. تفجر لغتها في امتلاك لغتها الخاصة . وهذا يفرض عليها نوع من الممارسة الذاتية .لكل التصورات الراهنة .و الرؤى المستقبلية . وتاسيس قاعدة مؤقتة لمتنها اللغوي الجديد .الذي ينفلت باستمرار عن التقعيد. و ضبط سلوكها المترد .طامحة الى غد افضل . وتظل التجربة الشعرية بلغتها الفضفاضة مثار جدال طويل . وصياغة تتوسط المشهد الثقافي. الذي يضعها في المرتبة الثالثة او الرابعة .اننا امام الامتحان الصعب. في تجاوز هذه المرحلة التاريخية من كتابة الشعر . وضرورة وضع ارضية خصبة للنقاش الطويل . وفتح ابواب الشعر على مصراعيها .واكتشاف عمق الانسان العربي و هو يكتب حياته شعرا .
خليل الوافي
khalil-louafi@hotmail.com